مقالات

ناجي الكرشابي يكتب : العظماء لا يأكلون من ذهب .. بل من أوراق الشجر

اعلامي سوداني مقيم بتركيا

 

في زمنٍ عزّ فيه الوفاء وكثُرت فيه الخيانات، شاهدنا مشهداً لا تنساه أعيننا ولا تنكره ضمائرنا: جنود من قواتنا المسلحة ، وسط الركام والنار والحصار ، يطحنون أوراق الشجر اليابسة ليصنعوا منها وجبة تسد رمقهم، في الوقت الذي تحاصرهم فيه مليشيات الدعم السريع من كل اتجاه حول القيادة العامة.

تلك لم تكن مجرد لقطات مؤلمة، بل كانت شهادة حيّة على أن الشرف لا يُشترى، وأن الوطنية لا تُدرَّس في المدارس بل تُولد في المواقف ، ووردا عمليا لشعارات قحت المسمومة من شاكلة “معليش ما عندنا جيش” التي كانت تخرج من ادبارهم عقب كل قرار تصدره لتحجيم وتقزيم قواتنا المسلحة ، هؤلاء الجنود لم يكونوا يبحثون عن حياة رغدة ولا عن امتيازات، بل كانوا يدافعون عن وطن، دنسته قحت قبل حميدتي وعن كرامة شعب، وعن مبادئ لا تهزمها بطون خاوية.

لقد علمونا هؤلاء الشجعان أن الجندية ليست بندقية وزياً عسكرياً، بل صبرٌ تحت الجوع، وثباتٌ في وجه الخيانة، ووفاءٌ للأرض التي ربّت.

ما أعظم هؤلاء الرجال! لم يصرخوا في الإعلام، ولم يساوموا على مبادئهم، بل اختاروا الموت جوعاً على أن يسقطوا البلد في يد الخونة قبل شرف الخدمة العسكرية. نعم، ربما لم تكن لديهم طائرات ولا سلاح نوعي، لكنهم امتلكوا أغلى من ذلك: عقيدة وطنية صلبة، وقلباً لا يعرف الهزيمة، وعيناً لا تنام إلا على علمٍ يرفرف على سماء الخرطوم.

في وقتٍ كانت فيه أصوات الحرب تشتد، والبلاد تنهار اقتصادياً وإنسانياً، كان هؤلاء الأبطال يشكلون آخر جدارٍ يقف بين السودان والفوضى. طَحن أوراق الشجر لم يكن فعلاً عشوائياً، بل بياناً ناطقاً بأن الجيش السوداني لا يُهزم ، وأنّنا نمتلك رجالاً حين يجوعون يأكلون التراب، ولا يبيعون شرفهم.

يا أبناء بلادي، لا تنسوا وجوههم، ولا تنكروا صبرهم، ولا تتركوا تضحياتهم تمضي كأنها كانت حلماً عابراً. علينا أن نحفظ أسماءهم، ونعلّم أبناءنا قصصهم، ونُحيي في مدارسنا وجامعاتنا رواياتهم كما نُحيي البطولات الكبرى.

هذه ليست دعوة لتمجيد الحرب، بل لتمجيد الوفاء. ليست دعوة لتأجيج الصراع، بل لتذكيرنا أن في زمن الخيانة، هناك من اختار أن يموت واقفاً.

رحم الله من قضى، وشفى من جُرح، وحرّر الله بلادنا من الحصار والميلشيات والانقسام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى