
في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، تتكثف التحركات الدولية والإقليمية في محاولة لإعادة تشكيل المشهد السياسي، وسط أزمة متفاقمة وحرب أنهكت البلاد وأعادت ترتيب خارطة النفوذ. الولايات المتحدة، التي لطالما لعبت دوراً مزدوجاً بين الوساطة والضغط، دعت الحكومة السودانية لاجتماع ثنائي لمناقشة الأزمة، مستبعدة مليشيات الدعم السريع من طاولة الحوار، في خطوة تحمل في ظاهرها نوايا حسنة، لكنها تثير في باطنها شكوكاً حول الأهداف الحقيقية.
فهل تسعى واشنطن فعلاً إلى حل جذري ينهي الحرب ويعيد للسودان سيادته، أم أنها تحاول إعادة تدوير الأزمة عبر قنوات جديدة؟ وهل يمكن الوثوق بوساطة لم تُعلن موقفاً واضحاً من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها المليشيات المدعومة من الخارج؟ هذه الأسئلة تظل معلقة، والإجابة عنها مرهونة بمدى استعداد أمريكا لاحترام إرادة الشعب السوداني، لا الالتفاف عليها.
في المقابل، تبرز حكومة أبوظبي كلاعب إقليمي يسعى إلى الخروج من الأزمة السودانية بعد أن تورطت فيها عبر دعم مباشر وغير مباشر لمليشيات الدعم السريع. أبوظبي، التي ترى في السودان بوابة استراتيجية لمصالحها في القرن الإفريقي، تحاول اليوم إعادة ترميم العلاقات عبر تقديم تعويضات وإبداء استعدادها لإصلاح ما دمرته الحرب. لكنها تواجه رفضاً صريحاً من الحكومة السودانية، التي تعتبرها طرفاً معادياً لا يمكن الوثوق به إلا بعد مراجعة شاملة لدورها في الأزمة.
الموقف السوداني، الذي يصر على أن يكون الحوار مع أبوظبي كدولة لا كمليشيا، يعكس وعياً سيادياً متقدماً، ويضع النقاط على الحروف في معادلة معقدة تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية. فالسودان لا يبحث عن تسوية شكلية، بل عن حل جذري يعيد له قراره الوطني ويقطع الطريق أمام أي تدخل خارجي يعيد إنتاج الأزمة.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن أي وساطة لا تنطلق من احترام إرادة الشعب السوداني، ولا تعترف بحقوقه، مصيرها الفشل. فالشعب السوداني، الذي واجه إنقلاب المليشيا المدعومة خارجياً بصمود أسطوري، لن يقبل بأي تسوية لا تضع كرامته في الصدارة، ولا تعيد له سيادته المنهوبة.
وعليه، فإن المعركة الحقيقية ليست مع الأذيال التي تتحرك في الظل، بل مع الفيل الذي يقف في قلب الأزمة، يصنعها ويديرها ويمولها. أما من ارتضى أن يكون أداة في يد الخارج، فمصيره إلى زوال، لأن الشعوب لا تنسى، والتاريخ لا يرحم، والعدالة وإن تأخرت، فإنها لا تغيب.
السودان اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يختار طريق السيادة والكرامة، وإما أن يُعاد إنتاج الأزمة تحت مسميات جديدة. لكن ما يجب أن يدركه الجميع، أن الشعب السوداني قد تغيّر.
لقد انتهى زمن الوصاية، وبدأ زمن القرار الوطني الحر. لم تعدالمعركة مع أدوات التخريب بل مع من يمولها ويغذيها ويمنحها غطاءً زائفاً. المعركة الآن مع الفيل، ذاك المتباهي ببريق أذياله، المتوهم أن حجمه يمنحه الحق في العبث بمصير الشعوب. لكننا نعلم أن الأوطان لا تُقاس بالأحجام، بل بالإرادة،وأن الشعوب حين تنهض، لا تهاب الأفيال ولا من يقف خلفها.


