دكتور جاد الله فضل المولى يكتب : حين تتحكم الشائعة في الوعي: السودان بين الحقيقة والضباب
نقطة إرتكاز

في السودان، لا تنتشر الشائعات فحسب، بل تتحول أحياناً إلى مرجعية يتعامل معها الناس وكأنها الحقيقة المطلقة. في لحظة واحدة، قد تُشعل الشائعة فتنة، تُربك مؤسسة، أو تُغيّر موقفاً سياسياً، دون أن يكون لها أصل أو سند. إنها ليست مجرد كلمات عابرة، بل أدوات فعالة في تشكيل الرأي العام، وتوجيه السلوك الجمعي، خاصة في أوقات الأزمات والاضطراب.
ما يجعل المجتمع السوداني أكثر عرضة لتأثير الشائعات هو هشاشة البنية الإعلامية، وضعف الوصول إلى المعلومة الموثوقة، وانعدام الثقة في المصادر الرسمية. في ظل هذا الفراغ، تتسلل الشائعة كبديل جاهز، تُغذيها وسائل التواصل الاجتماعي، وتُضخمها غرف الدعاية المضادة، حتى تصبح أكثر تأثيراً من الخبر الصحيح نفسه.
لقد شهد السودان في السنوات الأخيرة موجات من الشائعات التي أربكت المشهد السياسي والأمني، وخلقت حالة من الهلع الجماعي، خاصة أثناء النزاعات المسلحة. فبينما كانت المؤسسات تحاول ضبط الإيقاع، كانت الشائعات تسبقها بخطوات، تُعيد تشكيل الأحداث، وتُعيد تفسير الوقائع، وتُعيد توجيه الانفعالات.
المشكلة لا تكمن فقط في من يُطلق الشائعة، بل في قابلية المجتمع لتصديقها، وتداولها، والتفاعل معها دون تمحيص. فالشائعة لا تعيش إلا في بيئة خصبة من القلق، والفراغ المعلوماتي، والانقسام المجتمعي. وكلما زادت حالة عدم اليقين، زادت قدرة الشائعة على التحكم في المزاج العام.
ولأن الشائعة لا تُواجه بالإنكار وحده، فإن التصدي لها يتطلب استراتيجية إعلامية متكاملة، تبدأ من بناء الثقة في المؤسسات، وتمر عبر تعزيز الشفافية، وتنتهي بتمكين المواطن من أدوات التحقق والتفكير النقدي. فالمجتمع الذي يُحصّن نفسه بالوعي، لا تقتله الشائعة، بل يُفككها، ويُعيدها إلى حجمها الحقيقي.
إن السودان اليوم بحاجة إلى إعلام وطني مسؤول، لا يُنافس الشائعة في السرعة، بل يُهزمها بالدقة. بحاجة إلى مؤسسات تخرج عن صمتها، وتُبادر بالشرح والتوضيح، لا أن تترك الساحة فارغة لمن يملأها بالضباب. وبحاجة إلى مواطن يعرف أن المعلومة ليست كل ما يُقال، بل كل ما يُثبت.
حين تتحكم الشائعة في المجتمع، فإنها لا تُخبره بما يحدث، بل تُخبره بما يُراد له أن يصدق. وهنا، لا يكون الخطر في الكلمة، بل في غياب الحقيقة.
حفظ الله السودان وشعبه من كل فتنة ومن كل طامع في أرضه وكرامته.


