ناجي الكرشابي يكتب : السكر… فساد يزكم الأنوف
أخبرني أحد أبطال الجيش الأبيض، وهو يغالب الحسرة في صوته، عن حال أسرة جندي برتبة عريف، من أولئك البواسل الذين يرابطون في خطوط النار بمعركة الكرامة.
كان طفله يعاني من الإسهال المائي، جسده الصغير أنهكه الجفاف، وحين أخذوه إلى المستشفى، قال لهم الطبيب: “لازم يشرب سوائل كتيرة… على الأقل شربات ليمون”.
لترد عليه الأم وهي تطأطئ رأسها بانكسار: “من وين نجيب سكر يا دكتور؟”.
تذكرت هذا الحديث وأنا أطالع بامتعاض، خبرًا عن “اتفاقية” تم توقيعها بين شركة السكر السودانية وشركة سعودية مغمورة، لتوريد 50 ألف طن من السكر شهريًا ـ ما يعادل نحو 30 مليون دولار، في صفقة تفوح منها رائحة فساد يزكم الأنوف، وتكشف أن اللوبي الذي كان ينهب في الظل قد بدأ يتجرأ على النهب في العلن.
بغض النظر عن حديث المدير العام لشركة السكر السودانية، الذي حاول التغبيش والتشويش بأن ما حدث مجرد اتفاق تفاهم غير ملزم.
أقول، في دولة تعاني من شُح السكر وارتفاع أسعاره، يتم توقيع صفقة بهذا الحجم بلا عطاءات، بلا منافسة، بلا خبرة، بلا مسؤولية، ومع شركة لا يعرفها حتى موظفوها، ويكاد سجلها التجاري لم يجف حبره بعد!.
والسؤال البديهي الذي لا يحتاج لعبقرية اقتصادية: لماذا لم يُطرح هذا الاحتياج الوطني الحساس في عطاءات علنية شفافة؟.
لماذا لم يُفتح الباب لتجار السكر الكبار في الداخل، ممن يملكون الخبرة والقدرة والالتزام، ليقدّموا عروضهم وتُرسا المنافسة لمن يقدّم أفضل سعر وجودة وتوريد مضمون؟
إذا كنا فعلاً في دولة مؤسسات، فكيف نفسر هذه المزادات السرية التي تُدار خلف الأبواب المغلقة؟.
ما جرى ليس سوى نموذج فجّ لمافيا داخل بعض مؤسسات الدولة، لوبيات تتخفّى في ثياب المسؤولين، وتنهب باسم الاستثمار، بينما الشهداء يسقطون، والغلابة يُحرمون من كوب شاي مُحلّى في آخر اليوم.
سيدي رئيس الوزراء، نذكّرك بالآمال العِراض التي وضعها هذا الشعب على كتفيك حين تم اختيارك رئيسًا للوزراء، يومها هلل الناس وكبّروا، أملاً في رجل نزيه يعيد للدولة وقارها وهيبتها.
ولذا، فإننا نلفت انتباهك: العدو اليوم ليس فقط على الجبهة، بل يتغلغل في قلب الدولة.
هذا اللوبي الفاسد، الذي يوزع الثروات ويقصي الكفاءات ويعقد الصفقات المريبة، هو الخنجر الحقيقي في ظهر الدولة.
وإذا أردنا جديًا تنظيف الدولة من الداخل، فإن أول ما يجب فعله هو الإطاحة الفورية بمثل هؤلاء المديرين العامين للشركات العامة، ممن تربوا في بيئة غياب الرقابة إبان عهد الهمبول حمدوك، واستمر بعضهم ببركات المتمرد حميدتي نفسه!
إنهم أداة من أدوات التمكين الاقتصادي للمليشيا، وتعيينهم لم يكن عبثًا، بل زرعًا منظمًا داخل جسد الدولة.
وقد صدق القائد الفريق ياسر العطا حين قال بوضوح إن للتمرد امتدادات داخل المؤسسات، لكن للأسف، لم تُؤخذ تحذيراته بالجدية التي تستحقها.
وقد آن الأوان يا سيادة رئيس الوزراء، لتطهير هذه المؤسسات من خلايا الفساد هذه، وفورًا، احترامًا لصبر هذا الشعب العظيم، وقبل ذلك، وفاءً لدماء شهدائنا من المدنيين والعسكريين.
أما مولانا وزير العدل الهمام والنائب العام، فإن معركتكم الحقيقية هي اجتثاث هذا الفساد من جذوره، وملاحقة من ينهبون السكر وغيره، كما تُلاحق الميليشيات التي تنهب الأرض بالسلاح.
لا يمكن أن نحارب التمرد في الخارج، ونترك جذور التمرد الاقتصادي تنخر في الداخل.
ولا يمكن أن نحمل أرواح جنودنا على الأكف، ونضع ثرواتنا في يد “مستثمرين” بلا رصيد ولا ضمير.
كما فعلت شركة الجنيد في عهد حمدوك، التي تغذت على الدولة ثم انقلبت عليها، يظهر اليوم من يسير على خطاها، ولكن هذه المرة بشكل أكثر وقاحة وثقة.
أخيرًا نقول: الدماء التي تُسكب في المعارك، لا يجوز أن تُباع في سوق السكر أو غيره.
ولا نامت أعين الفاسدين.
ثم لا نامت أعين الجبناء.