
في زمنٍ تتداخل فيه الحقيقة مع التضليل، وتُستخدم فيه الكلمة كسلاحٍ لا يقل فتكاً عن الرصاصة، يصبح الإعلام الموجه مسؤولية وطنية لا ترفاً فكرياً. السودان اليوم لا يخوض حرباً تقليدية فقط، بل يخوض معركة الوعي، معركة الإدراك، معركة استعادة العقول التي اختطفتها المليشيات، وغرست فيها شعارات زائفة، وأوهاماً قاتلة، وأهدافاً لا تخدم إلا الخراب.
إن معظم أفراد مليشيات الدعم السريع ليسوا أعداءً بالفطرة، بل ضحايا لبيئةٍ هشّة، وتعبئةٍ خاطئة، وتوجيهٍ عدائي، جعلهم يظنون أن القتال بطولة، وأن الخراب انتصار، وأن شعار “يا شهادة يا نصر” هو طريق المجد، بينما هو في الحقيقة طريق الفناء. هؤلاء شباب من أبناء السودان، من قرى وأحياء ومناطق نائيه، لم يجدوا من يحتضنهم، فاحتضنتهم المليشيا، ولم يسمعوا صوت العقل، فسمعوا صوت السلاح، ولم يروا طريق التنمية، فغرقوا في مستنقع الدماء.
هنا يأتي دور الإعلام، لا بوصفه ناقلاً للأحداث، بل صانعاً للوعي، موجهاً للرسائل، حاملاً للضمير الوطني. الإعلام الموجه يجب أن يخاطب عقلية هؤلاء الشباب، لا أن يهاجمهم، يجب أن يزرع فيهم الشك في ما يفعلونه، لا أن يرسخ العداء، يجب أن يقول لهم إن ما يفعلونه ليس بطولة، بل خيانة للوطن، وإن من فشّ غبينته خرب مدينته، وإن السلاح لا يبني وطناً، بل يهدمه.
على خبراء الإعلام أن يصيغوا رسائل ذكية، مؤثرة، تصل إلى هؤلاء بلغتهم، بثقافتهم، بواقعهم، وتفتح لهم باب العودة، لا باب الإدانة. وعلى الصحفيين الأحرار أن يتحرروا من الخطاب التقليدي، وأن ينخرطوا في معركة التنوير، وأن يجعلوا من أقلامهم جسوراً للوعي، لا خنادق للشتات. فالإعلام ليس مرآةً فقط، بل هو محرّك، وهو أداة تغيير، وهو صوت العقل حين يصمت الجميع.
إن السودان لا يحتاج إلى مزيدٍ من الرصاص، بل إلى مزيدٍ من الوعي. لا يحتاج إلى شعارات الحرب، بل إلى شعارات البناء. لا يحتاج إلى من يصفق للدمار، بل إلى من يزرع الأمل. والشباب الذين يحملون السلاح اليوم، يمكن أن يحملوا أدوات البناء غداً، إذا وجدوا من يخاطبهم بصدق، ويحتضنهم بوطنية، ويعيد إليهم إنسانيتهم التي شوهتها المليشيا.
فلنوجه الإعلام نحو الوطن، نحو العقل، نحو السلام. ولنخاطب هؤلاء الشباب لا كخصوم، بل كأبناء ضلوا الطريق. فالسودان لا يُبنى بالإقصاء، بل بالاحتواء، ولا ينهض بالدم، بل بالعلم، ولا ينتصر بالصراخ، بل بالحكمة. الإعلام اليوم هو سلاحنا الأقوى، فلنحمله بوعي، ولنستخدمه لبناء وطنٍ يستحق الحياة.