Uncategorized

دكتور جاد الله فضل المولى يكتب : تجّار الحرب: الوجه الآخر للدمار الاقتصادي في السودان

نقطة إرتكاز

 

 

في خضم الحرب التي مزّقت السودان أرضاً وشعباً، برز دورٌ خفيٌ لبعض رجال الأعمال الذين اختاروا أن يكونوا جزءاً من ماكينة التدمير، لا من مشروع الإنقاذ. لم تكن الحرب مجرد صراعٍ عسكريٍ بين أطرافٍ متنازعةٍ، بل تحوّلت إلى سوقٍ سوداءٍ مفتوحةٍ، يتاجر فيها البعض بالدم، ويضارب بالعملة، ويهرّب الذهب، ويغسل الأموال، وكأن الوطن مجرد صفقةٍ رابحةٍ في بورصة الخراب.

 

المضاربة في أسعار العملات الأجنبية، وشراء الدولار من السوق السوداء، لم تكن مجرد فعلٍ اقتصاديٍ عشوائيٍ، بل كانت عمليةً منظمةً، يقودها رجال أعمالٍ نافذون، ساهموا في رفع سعر الدولار إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، ما أدى إلى انهيار الجنيه السوداني، وارتفاع أسعار السلع، وتفاقم معاناة المواطن. هؤلاء لم يكتفوا بتدمير الاقتصاد، بل ساهموا في تعميق الأزمة الإنسانية، عبر حرمان الدولة من القدرة على الاستيراد، ودفعها نحو الإفلاس.

 

أما الذهب، ذلك المورد الذي كان يمكن أن يكون طوق نجاةٍ للاقتصاد السوداني، فقد تحوّل إلى سلعةٍ مهربةٍ، تُنقل عبر الحدود إلى أسواقٍ خارجيةٍ، دون أن تستفيد الدولة من عائداته. عمليات التهريب تتم تحت غطاءٍ من النفوذ، وبمساعدة شبكاتٍ دوليةٍ لغسيل الأموال، تُستخدم فيها شركاتٌ وهميةٌ، وحساباتٌ خارجيةٌ، لتحويل الذهب إلى أرباحٍ شخصيةٍ، بينما ينهار الاقتصاد، وتُنهب الثروة.

 

المنتجات الزراعية، التي يُفترض أن تكون ركيزةً للتنمية، تُهرّب هي الأخرى إلى الخارج، دون أن تدخل عائداتها إلى خزينة الدولة. تُباع المحاصيل في أسواقٍ إقليميةٍ، وتُحوّل أرباحها إلى حساباتٍ خاصةٍ، بينما يعاني المزارع من نقصٍ في المدخلات، وغيابٍ للدعم، وتدهورٍ في البنية التحتية. إنها منظومةٌ كاملةٌ من النهب المنظم، تُدار من خلف الكواليس، وتُغذّي الحرب، وتُطيل أمدها.

 

الحل لا يكمن في التنديد فقط، بل في بناء منظومةٍ رقابيةٍ صارمةٍ، تُلاحق الفساد المالي، وتُغلق منافذ التهريب، وتُعيد هيكلة النظام المصرفي، وتُفعّل قوانين مكافحة غسيل الأموال. يجب أن تُفرض رقابةٌ على حركة النقد، وأن تُلزم الشركات بالإفصاح المالي، وأن تُحاكم كل من يثبت تورطه في تمويل الحرب أو تقويض الاقتصاد. كما يجب أن تُستعاد الثقة في المؤسسات، عبر إصلاحٍ شاملٍ، يُعيد للدولة هيبتها، ويُعيد للاقتصاد توازنه.

 

إن كبح جماح هؤلاء لا يتم إلا بإرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ، وبقضاءٍ مستقلٍ، وبإعلامٍ حرٍ، يُسلّط الضوء على الفساد، ويُفضح المتورطين، ويُعيد تشكيل الوعي الجمعي بأن الحرب ليست فقط في الميدان، بل في الأسواق، وفي البنوك، وفي المكاتب المغلقة. فالسودان لن ينهض ما لم يُكسر تحالف المال والدم، وما لم يُحاسب من تاجروا بالوطن، وجعلوا من أزمته فرصةً للثراء.

 

إنها معركةٌ أخلاقيةٌ قبل أن تكون اقتصاديةً، معركةٌ من أجل استعادة الوطن من قبضة تجّار الحرب، الذين لا يرون في السودان إلا رقماً في دفتر الأرباح. فلتكن هذه اللحظة بدايةً لكشف المستور، وبدايةً لحربٍ من نوعٍ آخر، تُخاض بالقانون، وبالوعي، وبالإرادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى