Uncategorized
أخر الأخبار

 هل تنهض الزراعة السودانية على خطى اليابان؟

دكتور : جاد الله فضل المولى

 

في قلب التجربة اليابانية الزراعية يكمن درسٌ عميقٌ في الإرادة والتخطيط والابتكار، درسٌ يمكن أن يلهم السودان في سعيه نحو نهضة زراعية طال انتظارها. اليابان، رغم محدودية أراضيها الزراعية وافتقارها للموارد الطبيعية، استطاعت أن تحوّل الزراعة إلى قطاعٍ متطورٍ ومربحٍ،بينما السودان بموارده الهائلة من الأراضي الخصبة والمياه، لا يزال يراوح مكانه في دائرة الإنتاج التقليدي والتحديات الهيكلية.

اليابان نهضت زراعياً عبر تبني سياساتٍ دقيقةٍ، واستثماراتٍ ضخمةٍ في البحث العلمي، وتكنولوجيا الزراعة الذكية، إلى جانب دعمٍ حكوميٍ مستمرٍ للمزارعين. في عام ٢٠٢٣م، بلغت قيمة الإنتاج الزراعي الياباني ٩.٥ تريليون ين، مدفوعةً بارتفاع أسعار الأرز والخضروات والبيض، مع مساهمةٍ كبيرةٍ من قطاع الثروة الحيوانية. هذا النمو لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة تراكمٍ معرفيٍ وتخطيطٍ طويل الأمد، حيث تُدار الزراعة هناك كصناعةٍ متكاملةٍ، لا كمجرد نشاطٍ تقليديٍ.

في المقابل، السودان يمتلك أكثر من ٢٠٠ مليون فدانٍ صالحةٍ للزراعة، ونهرين عظيمين، ومناخٍ متنوعٍ، لكنه يعاني من ضعف البنية التحتية، وتدني الاستثمار في البحث الزراعي، وغياب الإرادة السياسية المستقرة. خلال العقود الثلاثة الماضية، تراجعت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي، رغم أنه ظل مصدراً رئيسياً للعملة الأجنبية وسبل العيش. التحديات المناخية، كالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، زادت الطين بلة، بينما لم تُترجم الخطط التنموية إلى واقعٍ ملموسٍ بسبب الاضطرابات السياسية المتكررة.

ومع ذلك، هناك بصيص أملٍ. التعاون السوداني الياباني في زراعة الأرز في ست ولاياتٍ سودانيةٍ يُعد نموذجاً واعداً لتطبيق التجربة اليابانية محلياً. هذا المشروع الذي تقوده الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا)،يركز على اختيار المزارعين وفق معاييرٍعلميةٍ،وتوفير التدريب والبنية التحتية، مما يعكس إمكانية نقل المعرفة اليابانية إلى السياق السوداني، إذا توفرت الإرادة والدعم المؤسسي.

لكن السؤال الأهم ليس فقط كيف نُطبق التجربة اليابانية، بل لماذا لم ننهض كما نهضت اليابان؟ الجواب يكمن في الفرق بين من يملك الرؤية ومن يكتفي بالموارد. اليابان بنت نهضتها على التعليم والانضباط والابتكار، بينما السودان لا يزال أسيراً لنزاعاتٍ سياسيةٍ، وتهميشٍ للعلم، وتغييبٍ للمزارع عن دائرة القرار. النهضة الزراعية لا تُصنع بالخصوبة وحدها، بل بالحوكمة الرشيدة، والاستثمار في الإنسان، والتخطيط بعيد المدى.

لذلك، فإن اقتراحي للسودان هو أن يبدأ من حيث بدأت اليابان ببناء قاعدةٍ معرفيةٍ قويةٍ، وتطوير مؤسساتٍ زراعيةٍ مستقلةٍ، وتبني التكنولوجيا، وتوفير الحوافز للمزارعين، مع إشراكهم في رسم السياسات لا تنفيذها فقط. كما يجب أن يكون هناك التزامٌ سياسيٌ حقيقيٌ، لا شعاراتٌ موسميةٌ، وأن تُربط الزراعة بالصناعة، والتعليم، والبحث العلمي، لتتحول من عبءٍ إلى رافعةٍ اقتصاديةٍ.

إن نهضة السودان الزراعية ليست حلماً مستحيلاً ،لكنها تحتاج إلى عقلٍ يخطط، ويدٍ تعمل، وقلبٍ يؤمن بأن الأرض لا تخون من يزرعها بإخلاصٍ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى