Uncategorized

السودان يغرق بسبب أبي أحمد.. بين فيضانات كارثية وسدّ يهدد الحياة (2/2)

 

 

بقلم / علي فوزي – الباحث في الشؤون العربية والإفريقية

 

مع استمرار الفيضانات التي تضرب السودان وتغمر مدنه وحقوله، يتجدد الحديث حول الخطر الحقيقي الكامن في سياسات إثيوبيا المائية، خاصة بعد أن أثبتت السنوات الماضية أن أزمة سد النهضة ليست مجرد خلاف فني أو هندسي، بل قضية أمن قومي تمس حياة شعوب بأكملها.

وبعد أن لقي مقالي السابق صدى واسعًا بين عدد من النخب في مصر والسودان، وجدت من الضروري أن أستكمل هذا الملف المصيري، عبر التوقف عند اتفاق إعلان المبادئ الذي وُقّع في مارس 2015، باعتباره لحظة مفصلية كان يمكن أن تؤسس لشراكة تنموية عادلة، لكنها تحولت – بفعل السلوك الإثيوبي – إلى بوابة للأزمات والكوارث.

إعلان المبادئ.. أمل ضائع بين النص والتطبيق

حين وُقّع اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم عام 2015 بين مصر والسودان وإثيوبيا، كان الهدف المعلن هو إقامة إطار قانوني يضمن التعاون والتنسيق المشترك في كل ما يتعلق بمياه النيل وسد النهضة، وفقًا لثلاثة مبادئ أساسية:

1. عدم الإضرار بدول المصب.

2. الاستخدام المنصف والمعقول للمياه.

3. التفاهم المشترك في الملء والتشغيل.

كما نص الاتفاق بوضوح على ضرورة إجراء دراسات فنية مشتركة لتقييم الآثار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية قبل أي خطوة في بناء السد أو تشغيله.
لكن ما حدث بعد ذلك نسف جوهر الاتفاق تمامًا؛ إذ تعاملت أديس أبابا معه كوثيقة سياسية شكلية، لا كالتزام قانوني واجب النفاذ، لتبدأ عمليات الملء والتشغيل بشكل أحادي ودون إخطار مسبق، في تحدٍ صارخٍ لمبادئ القانون الدولي ولمفهوم حسن الجوار.

 

الفيضانات السودانية تكشف المستور

الفيضانات الأخيرة التي اجتاحت ولايات السودان المختلفة لم تكن مجرد كارثة طبيعية عابرة، بل جاءت كجرس إنذار قاسٍ يكشف حجم الخلل في منظومة إدارة مياه النيل.
فقد حذر خبراء سودانيون – وعلى رأسهم البروفيسور أسعد شمس الدين – من أن وصول مياه الفيضان إلى شوارع ود مدني يعيد إلى الأذهان كارثتي عامي 1946 و1988، مشيرين إلى أن فتح بوابات سد النهضة دون تنسيق مسبق مع الخرطوم تسبب في تدفقات مائية مفاجئة دمرت قرى ومزارع وبنية تحتية كاملة.

هذه الكارثة الإنسانية تؤكد ما نادت به القاهرة والخرطوم طيلة السنوات الماضية: أن السد الإثيوبي يمكن أن يتحول من مشروع تنموي إلى سلاح مائي يُستخدم للضغط السياسي أو لتحقيق مكاسب تفاوضية، على حساب حياة الملايين.

 

غياب الإرادة الدولية.. وتشجيع السلوك الأحادي

المؤسف أن المجتمع الدولي لا يزال يتعامل مع الأزمة بقدر من اللامبالاة، مكتفيًا بتصريحات دبلوماسية تدعو إلى الحوار، دون أي خطوات عملية للضغط على إثيوبيا لاحترام التزاماتها.
لقد شجع هذا الصمت الدولي أديس أبابا على التمادي في خروقاتها، حتى باتت تتعامل مع نهر النيل وكأنه ملكية وطنية حصرية، متناسية أنه شريان حياة مشترك لـ11 دولة إفريقية، وأن العدالة في توزيع مياهه هي أساس الاستقرار في الإقليم بأكمله.

 

السودان.. بين مواجهة الكارثة والبحث عن حلول مؤقتة

تواجه السلطات السودانية اليوم تحديات قاسية في إدارة الأزمة الراهنة.
فمع اتساع رقعة الفيضانات في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، تبذل فرق الدفاع المدني والهلال الأحمر جهودًا مضنية لإنقاذ الأسر المنكوبة وإيواء المتضررين، بينما يواصل المهندسون في محطات البحوث الهايدروليكية مراقبة التدفقات ومحاولة تقدير حجم الخطر القادم.

إلا أن كل هذه الجهود، مهما كانت مخلصة، تبقى حلولًا مؤقتة لا تمس أصل المشكلة، طالما ظلت إثيوبيا ماضية في سياساتها الأحادية، وطالما غاب الإطار القانوني الملزم الذي يضمن التنسيق والتعاون الفعلي بين دول النهر.

في الختام، ما يحدث في النيل ليس مجرد نزاع مائي أو خلاف بين دول، بل هو اختبار حقيقي لمدى قدرة المجتمع الدولي على حماية حقوق الشعوب وضمان أمنها المائي،وعلى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي أن يتحركا بسرعة وحزم لفرض اتفاق قانوني جديد ملزم، يمنع تكرار الكوارث ويخلق بيئة من الشفافية والتعاون.

فالنيل هو شريان حياة لأكثر من 150 مليون إنسان، وأمانه هو أمان للمستقبل والسلام في المنطقة كلها، ولا يمكن السماح لأحد أن يستغله كسلاح يستباح به دم الأبرياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى