
في وطنٍ كان يُفترض أن يحتضن أبناءه لا أن ينهشهم في عقر دارهم خرجت فتاة سودانية من تحت ركام الألم لتحكي قصةً لا تُروى إلا بدم القلب لا تُكتب إلا بدموعٍ لا تجف ولا تُسمع إلا بصوتٍ يرتجف من هول ما جرى.
هي وشقيقاتها الثلاثة وقعن ضحيةً لجريمةٍ لا تُغتفر جريمة اغتصابٍ جماعيٍّ ارتُكبت أمام والدهنّ الذي لم يكن يملك سوى عينيه ليبكي بهما وعجزه ليصرخ به صمتاً وبعد ثلاثة أيام فقط وُجد منتحراً تاركاً خلفه سؤالاً لا يُجاب ووجعاً لا يُشفى.
مليشيات الدعم السريع لم تكتفِ بالقتل ولا بالنهب بل استخدمت سلاح الاغتصاب كسلاحٍ نفسيٍّ يُدمّر الأسر ويُهين الكرامة ويُحطّم ما تبقّى من إنسانيةٍ في هذا الوطن بلا رحمة بلا أخلاق بلا وازعٍ دينيٍّ أو إنسانيٍّ هل هؤلاء بشر هل هؤلاء سودانيون هل يعرفون معنى الوطن أم أنّهم جاؤوا ليحرقوا كلّ ما تبقّى من روحه
ما حدث لتلك الفتاة وشقيقاتها ليس حالةً فردية بل هو جزءٌ من سلسلةٍ طويلةٍ من الجرائم التي تُرتكب في صمتٍ وتُدفن في خوفٍ وتُنسى في زحمة الموت الجماعيّ الذي يعيشه السودان منذ أن تحوّلت البنادق إلى لغةٍ وحيدةٍ للحوار.
لكن هذه القصة لا يجب أن تُنسى لا يجب أن تُمرّر لا يجب أن تُدفن تحت تراب الخوف والخذلان هذه القصة يجب أن تُكتب على جدران العدالة يجب أن تُصرخ بها المنابر يجب أن تُعرض أمام كلّ من يدّعي أنّه يُمثّل هذا الشعب.
الاغتصاب ليس مجرّد انتهاكٍ جسديّ بل هو تدميرٌ للروح وللأسرة وللوطن هو إعلانٌ صريحٌ بأنّ من ارتكبه لا ينتمي إلى هذا التراب ولا يعرف معنى الكرامة ولا يحمل في قلبه ذرةً من الرحمة.
السودان لا يُبنى على أنقاض النساء ولا على دموع الأطفال ولا على انتحار الآباء السودان لا يُبنى إلا حين يُحاسب كلّ من تجرّأ على كرامة إنسانٍ فيه حين يُقال للحقّ أنت الأعلى وللجريمة أنت لا تمرّ.
هذه الفتاة لم تكتب قصتها لتُبكي الناس بل لتُوقظهم لم تروِ ما حدث لتُثير الشفقة بل لتُشعل الغضب لتُعيد للضمير السودانيّ نبضه ولتقول إنّ الصمت جريمة وإنّ التبرير خيانة وإنّ الوطن لا يُشفى إلا حين يُطهّر من كلّ من دنّس ترابه.
صرختها يجب أن تُسمع في كلّ بيت في كلّ صحيفة في كلّ منبر في كلّ قلبٍ لا يزال ينبض بالإنسانية لأنّها ليست وحدها ولأنّ ما حدث لها قد يحدث لغيرها ولأنّ السكوت اليوم يعني تكرار الجريمة غداً.
السودان الجديداً لا يجب أن يُبنى على أنقاض الضحايا بل على محاكمة الجناة لا يجب أن يُداربالإنكار بل بالاعتراف لا يجب أن يُحكم بالخوف بل بالعدالة.
وإنّ أول خطوةٍ نحو هذا الوطن هي أن نُسمّي الأشياء بأسمائها أن نقول إنّ ما حدث جريمةً لا تُغتفر وأنّ من ارتكبها لا يستحقّ أن يُسمّى سودانياً وأنّ من سكت عنها شريكٌ فيها.
هذه ليست قصة فتاةٍ فقط بل قصة وطنٍ يُصارع من أجل أن يبقى إنساناً.


