ناجي الكرشابي يكتب : سفر الشهداء .. ذاكرة الدم والكرامة

في زمن انقلبت فيه الحقائق، وتداخلت فيه ملامح الموت بالحياة، كتب شهداء السودان أعظم فصول الكرامة بدمائهم. ارتقوا في صمت، لكن صدى تضحياتهم ظل يهز ضمير الأمة، ويوقظ الذاكرة الوطنية من سباتها. لم يكونوا مجرد أرقام في نشرات الأخبار، بل كانوا وجوهًا من لحم ودم، لكل منهم قصة، وأم تنتظر، وشارع يعرف خطاه.
في هذه السلسلة التي نطلقها تحت عنوان “سفر الشهداء.. ذاكرة الدم والكرامة”، سنفتح دفاتر الغياب، لنُدوّن سِيَر أولئك الذين وقفوا في وجه الموت دفاعًا عن وطنٍ يتمزق، وعن مدنٍ تنهار، وعن أحلامٍ أُريد لها أن تُدفن. سنرصد شهادات الأحياء عن الأبطال الذين رحلوا، ونوثق تفاصيل اللحظات الأخيرة، ووصاياهم التي تنبض بالحياة رغم الغياب.
نكتب وفاءً لهم، ولأمهاتهم الثكالى، ولرفاقهم الذين ما زالوا على خطوط النار أو في مخيمات النزوح، نحاول أن نرد جزءًا من الدين، وأن نحفظ للكرامة أسماءها.
“سفر الشهداء” ليس رثاءً، بل إحياء ، وليس بكاءً على الأطلال، بل تأسيس لذاكرة مقاومة تأبى النسيان وتطالب بالعدالة .
من جنود الوطن في ساحات البطولة إلى المدنيين العُزّل في بيوتهم، ومن الأطفال الذين اغتالتهم القذائف، إلى الأطباء الذين استشهدوا وهم يضمدون الجراح ، كل واحد منهم صفحة سنكتبها، وصوت سنُسمعه للعالم، ونداء لن نخون معناه.
فمنذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023 بعد تمرد حميدتي وحلفائه، ظل السودان ينزف، وتتوالى الفواجع التي ما فتئت تمزق جسد الوطن وتثقل ذاكرته. في قلب هذه المأساة، يقف الشهداء، أولئك الذين ارتقوا وهم يدافعون عن تراب الوطن وقيمه ، أو أولئك الذين سقطوا ضحايا في بيوتهم، وأسواقهم، ومشافيهـم، وجامعاتهم، جراء رصاص لا يفرق بين مدني وعسكري، بين طفل وشيخ، بين امرأة ومقاتل.
إنها حرب أشعلتها مليشيا الدعم السريع، فمزقت العاصمة الخرطوم وأحرقت المدن ، وتركت خلفها جثثًا في الطرقات، ومقابر جماعية، ودموعًا في عيون الأمهات. لم تكن مجرد حرب، بل كانت مجزرة ممنهجة ضد الإنسان السوداني، استباحت البيوت ودور العبادة والمستشفيات، واغتصبت النساء، وشرّدت الملايين.
شهداؤنا ليسوا أرقامًا، بل وجوهٌ وأسماء، وتواريخ نبيلة. في كل مدينة، وفي كل حي، هناك حكاية دم. شابٌ خرج ليشتري الدواء فغدر به قناص، وطبيبٌ واصل نداء الواجب تحت القصف فارتقى شهيدًا، وأمٌ احتمت بمسجد فأُبيدت بقذيفة. كانوا من كل الأعمار، ومن كل الفئات، ومن مختلف الإثنيات، لكنهم اجتمعوا في مصير واحد ، ضحايا لعنف بلا حدود، وإجرام منظم.
ورغم عجز العالم عن وقف هذه المذبحة، فإن دماء الشهداء تظل تضيء الطريق. لقد صمد السودانيون، ووقفوا بكرامة، وأعلنوا أن هذه الدماء لن تذهب سدى. فكل شهيد هو شاهد، وكل قبر هو وثيقة إدانة، وكل صرخة هي وعد بالقصاص.
إننا نكتب هذه السطور الاستهلالية تمهيدًا لسلسلة من المقالات التوثيقية، نخلّد فيها سيرة شهدائنا الأبرار، من جنود الوطن البواسل إلى المدنيين الأبرياء، ونروي حكاياتهم، ونصون ذكراهم، ونُسجّل للتاريخ مواقفهم المشرّفة وتضحياتهم الجليلة.
فهذه الحرب لن تُطوى صفحتها إلا بعد أن تُكتب دماء الشهداء على جبين الذاكرة الوطنية، وتتحقق العدالة.



